فصل: تفسير الآيات (33- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات [33- 35]:

قوله تعالى: {وَلَما أَنْ جَاءَتْ رسلنَا لوطا سيءَ بهمْ وَضَاقَ بهمْ ذَرْعا وَقَالوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إنا منَجوكَ وَأَهْلَكَ إلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ منَ الْغَابرينَ (33) إنا منْزلونَ عَلَى أَهْل هَذه الْقَرْيَة رجْزا منَ السمَاء بمَا كَانوا يَفْسقونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا منْهَا آيَة بَينَة لقَوْمٍ يَعْقلونَ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما لم يبق بعد هذا إلا خبر الرسل مع لوط عليه الصلاة والسلام، قال عاطفا على ما تقديره: ثم فارقوه ومضوا إلى المدينة التي فيها لوط عليه السلام، مفهما بالعدول عن الفاء إلى الواو أن بين المكانين بعدا: {ولما} وأثبت ما صورته صورة الحرف المصدري لما اقتضاه مقصود السورة، وأكثر سياقاتها بين التسليك في مقام الامتحان والاجتهاد في النهي عن المنكر، ولذا ذكر هنا في قصة إبراهيم عليه السلام القتل والإحراق، وأتبعت بشراء بإهلاك القرية الظالمة، فقال: {أن جاءت رسلنا} أي المعظمون بنا {لوطا} بيانا لأنه {سيء} أي حصلت له المساءة {بهم} أول أوقات مجيئهم إليه وحين قدومهم عليه، فاجأته المساءة من غير ريب لما رأى من حسن أشكالهم، وخاف من تعرض قومه لهم، وهو يظن أنهم من الناس، وذلك أن أن في مثل هذا صلة وإن كان أصلها المصدر لتؤكد وجود الفعلين مرتبا وجود أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما فإنها وجدا في جزء واحد من الزمان، قال ابن هشام في المغني ما معناه أن علة ذلك أن الزائد يؤكد معنى ما جيء به لتأكيده، ولما تقيد وقوع الفعل الثاني عقيب الأول وترتبه عليه فالحرف الزائد يؤكد ذلك.
{وضاق بهم} أي بأعمال الحيلة في الدفع عنهم {ذرعا} أي ذرعة طاقتهم كما بين وأشبع القول فيه في سورة هود عليه السلام، والأصل في ذلك أن من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها، فضرب مثلا في العجز والقدرة، وذلك أنهم أتوه في صورة مردان ملاح جدا، وقد علم أمر أهل القرية في مثل ذلك ولم يعلم أنهم رسل الله.
ولما كان التقدير: فقالوا له: يا لوط! إنا رسل ربك، فخفض عليك من هذا الضيق الذي نراه بك فإنا ما أرسلنا إلا لإهلاكهم، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي لما رأوا ما لقي في أمرهم: {لا تخف} أي من أن يصلوا إلينا أو من أن تهلك أنت أو أحد من أهل طاعتك ولا تحزن أي على أحد ممن نهلكه فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليهم بسببه؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد للإغناء به عن جمل طوال، إشارة إلى أن الوقت أرق فهو لا يحتمل التطويل: {إنا منجوك} أي مبالغون في إنجائك {وأهلك} أي ومهلكوا أهل هذه القرية، فلا يقع ضميرك أنهم يصلون إلينا، وقالوا: {إلا امرأتك} تنصيصا على كل فرد منهم سواها؛ ثم دلوا على هلاكها بقولهم جوابا لمن كأنه قال: ما لها؟ فقيل: {كانت من الغابرين} أي كأن هذا الحكم في أصل خلقتها.
ولما أفهمت العبارة كما مضى إهلاكهم، صرحوا به فقالوا معينين لنوعه، معللين لما أخبروه به، مؤكدين إعلاما بأن الأمر قد فرغ منه قطعا لأن يشفع فيهم، جريا على عادة الأنبياء في الشفقة على أممهم: {إنا منزلون} أي لا محالة {على أهل هذه القرية رجزا} أي عذابا يكون فيه اضطراب شديد يضطرب منه من أصابه كائنا من كان {من السماء} فهو عظيم وقعه، شديد صدعه {بما كانوا} أي كونا راسخا {يفسقون} أي يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء.
ولما كان التقدير: ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم، فتركناها، كأن لم يسكن بها أحد قط، عطف عليه قوله مؤكدا إشارة إلى فضيلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم، وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الإنخلاع من الهوى: {ولقد تركنا} بما لنا من العظمة {منها} أي من تلك القرية {آية} علامة على قدرتنا على كل ما نريد {بينة} وهو الماء الأسود المنتن الذي غمر قراهم كلها بعد الخسف بها وهو مباين لجميع مياه الأرض لكونه ماء السخط لمن باينوا بفعلهم الخلق مع اشتهار كونه على الخسف.
ولما كان سبحانه قد حجب عن الأبصار كثيرا من الناس قال: {لقوم يعقلون} فعد من لم يستبصر به عير عاقل ولا شاعر بأنها آية ولا فيه أهلية القيام بما يريد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَما أَنْ جَاءَتْ رسلنَا لوطا سيءَ بهمْ وَضَاقَ بهمْ ذَرْعا}.
ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشرا فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعا كناية عن العجز في تدبيرهم، قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجها معقولا غير ذلك، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضا والقلب هو المعتبر من الإنسان، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم: {إنا منَجوكَ وَأَهْلَكَ} وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى قال من قبل: {وَلَما جَاءتْ رسلنَا إبراهيم} [العنكبوت: 31] وقال ههنا: {وَلَما أَن جَاءتْ رسلنَا} فما الحكمة فيه؟ فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجىء هناك قول الملائكة {إنا مهلكوا} وهو لم يكن متصلا بمجيئهم لأنهم بشروا أولا ولبثوا، ثم قالوا: إنا مهلكوا وأيضا فالتأني واللبث بعد المجىء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به، والواقع هاهنا هو خوف لوط عليهم، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئا من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير، إذا علم هذا فقوله ههنا: {وَلَما أَن جَاءتْ رسلنَا} يفيد الاتصال يعني خاف حين المجىء، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود، وقال: {وَلَما جَاءتْ رسلنَا لوطا} من غير أن، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك: {وَلَقَدْ جَاءتْ رسلنَا إبراهيم بالبشرى} [هود: 69] فقوله هنالك: {وَلَقَدْ جَاءتْ} لا يدل على أن قولهم: {أَنا أَرْسَلْنَا} كان في وقت المجىء.
وقوله: {وَلَما جَاءتْ رسلنَا لوطا سىء بهمْ} دل على أن حزنه كان وقت المجىء.
إذا علم هذا فنقول: هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم: {وَلَقَدْ جَاءتْ رسلنَا إبراهيم بالبشرى}.
[هود: 69] ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام، ثم قالوا: {لاَ تَخَفْ} ولا تحزن {إنا أرْسلْنَا إلى قَوْم لوطٍ} [هود: 70] فحصل تأخير الإنذار، وبقوله في حكاية لوط {وَلَما جَاءتْ رسلنَا} حصل بيان تعجيل الحزن، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم {وَلَما جَاءتْ} قال في حكاية لوط {وَلَما أَن جَاءتْ} لما ذكرنا من الفائدة.
المسألة الثانية:
قال هنا {إنا منَجوكَ وَأَهْلَكَ} وقال لإبراهيم {لَننَجيَنه} [العنكبوت: 32] بصيغة الفعل فهل فيه فائدة؟ قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلا، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم: {إن فيهَا لوطا} وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وهاهنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا: {إنا منَجوكَ} أي ذلك واقع منا كقوله تعالى: {إنكَ مَيت} [الزمر: 30] لضرورة وقوعه.
المسألة الثالثة:
قولهم: {لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ} لا يناسبه {إنا منَجوكَ} لأن خوفه ما كان على نفسه، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن، وهي أن لوطا لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا: {إنا منَجوكَ وَأَهْلَكَ}.
المسألة الرابعة:
القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟ فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم، فبالدلالة صارت واحدة منهم، ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا: {إنا منزلونَ على أَهْل هذه القرية رجْزا منَ السماء} واختلفوا في ذلك، فقال بعضهم حجارة وقيل نار وقيل خسف، وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء، ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا: {إنا منَجوكَ} ثم قالوا: {إنا منزلونَ على أَهْل هذه القرية} ولم يعللوا التنجية، فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد، وعللوا الإهلاك بقولهم: {بمَا كَانوا يَفْسقونَ} وقالوا بما كانوا، كما قالوا هناك: {إن أَهْلَهَا كَانوا ظالمين} [العنكبوت: 31] ثم قال تعالى: {وَلَقَد ترَكْنَا منْهَا ءايَة بَينَة لقَوْمٍ يَعْقلونَ} أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل:
المسألة الأولى:
جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها ءايَة} [العنكبوت: 15] وقال: {فَأَنْجَاه الله منَ النار إن في ذلك لآيات} [العنبكوت: 24] وجعل هاهنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء؟ نقول نعم، أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي، وما به النجاة وهو السفينة كان باقيا، والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية، وأما هاهنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو هاهنا البلاد وهناك السفينة وهاهنا لطيفة: وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة.
المسألة الثانية:
قال في السفينة: {وجعلناها ءايَة} ولم يقل بينة وقال هاهنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأما الآية هاهنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد، وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان، فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم؟.
المسألة الثالثة:
قال هناك {للعالمين} وقال ههنا: {لقَوْمٍ يَعْقلونَ} قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة، بل يكون دائما مرتجف القلب متضرعا إلى الله تعالى طلبا للنجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد، بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَما أَن جَاءتْ رسلنَا لوطا سىء بهمْ} والضمير في {بهم} في الموضعين عائد على الأضياف الرسل، وذلك من تخوفه لقومه عليهم فلما أخبروه بما هم فيه فرج عنه، وقرأ عامة القراء {سيء} بكسر السين، وقرأ عيسى وطلحة بضمها، و{الرجز} العذاب، وقوله: {بما كانوا يفسقون} أي عذابهم بسبب فسقهم، وكذلك كل أمة عذبها الله، فإنما عذبها على الفسوق والمعصية لكن بأن يقترن ذلك بالكفر الذي يوجب عذاب الآخرة، وقرأ أبو حيوة والأعمش {يفسقون} بكسر السين، وقوله تعالى: {ولقد تركنا منها} أي من خبرها وما بقي من أثرها، ف {من} لابتداء الغاية ويصح أن تكون للتبعيض على أن يريد ما ترك من بقايا بناء القرية ومنظرها، والآية موضع العبرة وعلامة القدرة ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى، وقرأ جمهور القراء {منزلون} بتخفيف الزاي، وقرأ ابن عامر {منزلون} بشد الزاء وهي قراءة الحسن وعاصم بخلاف عنهما، وقرء الأعمش {إنا مرسلون} بدل {منزلون} وقرأ ابن محيصن {رجزا} بضم الراء. اهـ.